فتح الأندلس
بعد استكمال فتح المسلمين لشمال إفريقيا واستقرار أمور الحكم بها، كان طبيعيا أن يتطلع موسى بن نصير إلى الضفة الأخرى المقابلة للمغرب، والتي تبدو واضحة للعيان عندما يكون الجو صحوا، إذ لا تفصلها عنه سوى كيلومترات معدودة، إلا أن الرجل كان يساوره خوف إن هو غامر بحياة المسلمين في اقتحام ذلك المجهول، ولكن سرعان ما سيتبدد ذلك الخوف على يد حاكم سبتة يوليان الذي اقترح عليه استخدام المدينة وربما سفنه للعبور إلى الضفة الأخرى. أما سبب هذا العرض المجاني في رأي معظم المؤرخين فيكمن في الضغينة التي كان يكنها يوليان للوذريق، إما لاغتصابه عرش الملك ويتزا Witza (يسميه العرب غيطشة) الذي كانت تربطه علاقة متينة بيوليان، أو لسبب آخر وهو أن ابنة هذا الأخير- وكانت ذات حسن وجمال- كانت تتربى في قصر لوذريق لتتأدب بآداب البلاط مع الوصيفات كما كان شأن الطبقة الأرستقراطية آنذاك، وعندما رآها روذريق أعجب بها فاعتدى عليها.
ومهما كانت الأسباب فإن موسى بن نصير وجدها فرصة سانحة لتحقيق ماكان يصبو إليه، فبعث أحد قواده وهو طريف بن مالك المعافري على رأس قوة تتكون من 400 مقاتل و100 فارس إلى جنوب إسبانيا لجس النبض هناك، وذلك سنة 91هـ/710م فنزل بمكان لازال يحمل اسمه إلى الآن وهو طريفة، وبعد استطلاع الأمر عاد طريف وهو يطمئن قائده في شأن العبور.
وبعد أن تلقى موسى بن نصير الضوء الأخضر من الخليفة الوليد بن عبد الملك في الشام، بعث طارق بن زياد لفتح إسبانيا وذلك في الخامس من رجب 92 هـ أبريل 711م حيث عبر المضيق الذي أصبح يحمل اسمه وهو مضيق جبل طارق، في جيش يقدر ب 7.000 رجل أغلبهم من البربر ونزل بمكان هو اليوم الجزيرة الخضراء. وعندما علم لوذريق ذلك جمع جيشا جراراً، في نفس الوقت أرسل موسى بن نصير إلى طارق 5.000 مقاتل آخر بقيادة طريف بن مالك، والتقى الجمعان في 28 رمضان 92هـ/19 يوليوز 711م عند وادي لكة، حيث مني النصارى بهزيمة نكراء، قتل على إثرها ملكهم لوذريق. ويقال إن موسى بن نصير عندما علم بالنصر الكبير الذي حققه طارق أمره بالعودة إما حسدا أو خوفا على أرواح المسلمين، إلا أن طعم النصر وحماس الجيوش لجني ثمرات الجهاد وتشجيع يوليان وأعداء لوذريق، زاد من حماس طارق في مواصلة مسيرته نحو عاصمة القوط طليطلة، حتى إنه لم يشغل باله بفتح مدن أخرى، إذ أرسل القائد مغيث الرومي لفتح قرطبة وغرناطة ومالقا وغيرها، وفي طليطلة أسس طارق بن زياد أول دولة للمسلمين بالأندلس.
وفي أواخر سنة 711م وأوائل 712م وصل موسى بن نصير إلى طنجة قادما إليها من القيروان، وفي رمضان 93هـ/يونيو 712م توجه إلى الأندلس في جيش يقدر ب 18.000 مقاتلاً أغلبهم هذه المرة من العرب، ونزل بالجزيرة الخضراء قاصدا هو الآخر مدينة طليطلة وفاتحا في طريقه مدناً لم يفتحها طارق من قبل، مثل شذونه واشبيلية وماردة وقرمونة وباجة ونبلة في البرتغال. وعندما وصل إلى طليطلة وجد في استقباله طارق بن زياد حيث توجها شمالا ليفتحا مدنا ومناطق كسر قسطة وصوريا وليون واشتورياس وجليقية كما بعثا جيوشا لفتح مرسية ووشقة ولاردة وطركونة وبرشلونة.
وفي طليطلة ضرب موسى بن نصير العملة باسمه باللغة اللاتينية المستمعلة آنذاك في دار السكة كأول وال عربي يحكم الأندلس.
بعد عملية الفتح بدأت حملة الهجرة إلى الأراضي الجديدة والغنية، حيث فتحت شهية سكان الضفة الجنوبية، مما شجع الآلاف على الاستقرار هناك، وخاصة في المناطق الخصبة المطلة على الأنهار الكبيرة مما أدى إلى تكوين المجتمع الأندلسي فيما بعد، وكان الناس يهاجرون على متن قوارب ووسائل بسيطة خاصة وأن المسافة قريبة جدا وسهلة العبور عندما تكون أحوال الطقس مناسبة.
وفي ذي القعدة 95هـ/ شتنبر714 م وبعد ثلاث سنوات من الفتح توجه موسى بن نصير وطارق بن زياد وبعض القواد محملين بالغنائم إلى دمشق بأمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك ليقدموا له بياناً عن الفتوحات. وشاءت الأقدار ألا ينال موسى حظه الذي يستحقه على ما قدم من انجازات جليلة، ذلك أن صديقه الخليفة الوليد سيموت بعد وصوله إلى دمشق بفترة وجيزة، وسيتولى من بعده أخوه سليمان الذي كان حاقداً على أخيه لأنه في اعتقاده تآمر عليه ليبعده عن الحكم، وهكذا ظل هذا القائد في الشام مهمشاً ومات ميتة لا تليق بمكانته. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل إن أيادي الغدر امتدت إلى الأندلس لتتآمر على اغتيال ابنه عبد العزيز. وكذلك كان مصير طارق بن زياد، اذ ظل نسياً منسياً لا يعرف عنه شيء بعد عودته إلى دمشق، وليسس هذا أمرا غريباً في حياة العظماء !
بعد عودة موسى وطارق إلى دمشق يستولي تسيير أمور البلاد عبد العزيز بن موسى بن نصير، لذلك يعده بعض المؤرخين ثالث الفاتحين، وقد كان الرجل خير خلف لخير سلف، إذ كان يرافق أباه في فتوحاته وحملاته العسكرية، فورث عنه، الشجاعة والحنكة والخبرة، وهكذا تولى أمور البلاد فاتحاً مالم يفتحه والده وطارق، فتوجه إلى الغرب (حاليا البرتغال) فدخل يابرة وشنترين وقلمرية واستورقة. في نفس الوقت كان قواده يفتحون ما تبقى من مدن الشمال الشرقي كطرطوشة وجيرونة وأرغونة ، كل هذا في ظرف سنتين لا غير (714م-716م).
وقد تميزت فترة عبد العزيز بسيل من الاضطرابات والفتن والمنازعات، فهي تارة بين العرب والبربر، إذ انفرد العرب كما هو معروف بالمناطق الخصبة في السهول وعلى ضفاف الأنهار، بينما كان نصيب البربر المناطق الجبلية النائية والوعرة، وهم الذين كانوا يرون أنفسهم أحق بالأراضي التي استولى عليها العرب باعتبارهم كانوا سباقين إلى الفتح، كما كانوا يشكلون الأغلبية مع طارق بينما شكل العرب الأقلية، ولم تكن هذه الاضطرابات وهذا الصراع ليظهر مع موسى وطارق، لأن الهدف آنذاك كان هو الفتح الإسلامي وما كان القائدان ليسمحا بظهوره.
كما تميزت هذه الفترة بالصراع بين العرب القحطانيين والعدنانيين، ذلك أنهم حملوا معهم عصبياتهم القبلية من المشرق إلى الأندلس، أضف إلى ذلك الخلافات الدينية بين المسلمين والمسيحيين والتي كانت السبب في نشوب حروب هنا وهناك من حين لآخر.
كان موت عبد العزيز المبكر على يد زياد بن عذرة البلوي في المسجد بعد صلاة الفجر في 6 رجب 97هـ/716م خسارة كبيرة للأندلس، وسيتولى من بعده ابن أخت موسى بن نصير أيوب بن حبيب اللخمي. وابتداء من هذا التاريخ ستدخل الأندلس مرحلة جديدة من تاريخها هي مرحلة الولاة.
المصادر:
- محمد سهيل طقوس، تاريخ المسلمين في الأندلس، دار النفائس، بيروت، 2008
- عبدالرحمن علي الحجي، التاريخ الأندلسي (من الفتح الاسلامي حتى سقوط غرناطة)، دار القلم دمشق، 2010
- حسين مؤنس، موسوعة تاريخ الأندلس (تاريخ، وفكر، وحضارة، وتراث)، ج 1 ، مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة الثانية، القاهرة، 2006.
- إبراهيم بيضون، الدولة العربية في إسبانيا من الفتح حتى سقوط الخلافة، دار النهضة العربية، بيروت، 1978.
- عبدالعزيز سالم، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس من الفتح العربي حتى سقوط الخلافة بقرطبة،. دار النهضة العربية، بيروت، 1988.